اعذريني سيدتي الجميلةُ "تنغير" أن أفضح ما بكِ من أَوْرَامٍ..
منذ أن وسَمُوكِ بوِسَام "العمالةِ الجديدةِ" والمصائبُ تنهالُ عليكِ تَتَراً..
أتعرفين لماذا يا سيدتي؟
لأنَّكِ غنيَّةٌ وساذجةٌ.. واللصوصُ يحبون الأغنياء السُّذَّجَ..
اعذريني هذه المرةَ أن أكون قاسياً في التعبير عن هذه المآسي! فقد "بلغ السيلُ الزُّبَى"..
دعونا الآن نحكي بعضَ الأحداثِ التي فضحتْ وَهَنَ "سموِّ الأميرةِ"، وكشفتْ ضعف جودةِ "المكياج" الذي تستعمله، تلك الأحداث التي وقَعَتْ يوم الخميس الموافق لـ 21 يوليوز 2011، لنقف عند حجم الكارثةِ التي نغَّصَتْ عن التنغيريين حلاوةَ أعراسهم من جهةٍ، وكشفتَ هشاشةَ البنيات التحتيةِ للمدينةِ الجميلة (جميلةٌ ما دام المغرب أجمل بلدٍ في العالم) من جهة ثانيةٍ، وتلاعبَ المسؤولين في تصريحاتهم من جهة ثالثةٍ.
وقعت الواقعة قرابة الساعةِ الخامسة تماماً، اصطدمت الحافلتان بسبب موت سائق الحافلة القادمة من أﮔادير (شيهاتور) -حسب تحريات الشرطة العلمية-. لم تصل أولُ سيارةِ إسعافٍ وسيارةٌ للوقاية المدنية التي أطفأت الحريقَ الذي نشبَ في مقدمةِ الحافلتين وفي جزء من الطريق بسبب الاحتكاكِ بين الحافلتين وتحطمِ صندوق البنزين - لم تصلا إلا بعد قرابةِ ساعةٍ من وقوع الحادث رغم الإخبار -حسب ما أفادت به بعض الشهادات-.
سمعتُ صافرات سيارات الإسعاف التي تتابعت بعدَ ذلكَ فالتحقتُ مباشرةً بـ"المستشفى المركزي" لتنغير (أضعه بين مزدوجتين لأنه لا يستحق تسمية "مستشفى"). لما رأيتُ عسكرة "المستشفى" حسبتُ الأمر في البدايةِ له علاقة بالصراع القائم بين "إغرم ن أيت امحمد" و"أيت عيسى". فاعتقدت أنَّ ذلك الصراع القبلي قد وصل حدَّ القتل. فلما استفسرتُ عن الأمر، أُخْبِرتُ أنها حادثة سيرٍ هي الأولى من حيث حجم الخسائر المادية والبشرية في تنغير.
لما التحقت رفقة صديقٍ، وزميلٍ في الصحافة، على متن سيارته إلى مكان الحادث، مررنا بسيارة إسعاف معطلةٍ بالقطب الحضري لتنغير، وسائقُها يحاول إصلاحَ عطبِها. أعطابٌ بعضُها فوق بعضٍ!
عاينَّا حالةَ الحافلتين؛ حافلة "أمنار" ما زالت حالتها جيدة لأنها ما تزال جديدةً. غير أنَّ حالة "شيهاتور" تعكسُ مدى التهميش الذي تعيشه مناطق الجنوب الشرقي، إذ إن حافلةً بتلك الجودة الهزيلة لا يجب أن تحصل على رخصة نقل الركاب داخل المجال الحضري، فما بالك بالتنقل بين الراشيدية وأﮔادير. والدليلُ أنَّ أغلب الذي ماتوا كانوا على متنها، فضلا عن حجم الأضرار التي لحقتها.
عندما عدنا إلى مركز "تكديس الجرحى والقتلى"، دخلنا لنُعايِن حالة بعض الجرحى، والعناية التي يحضوا بها، فمررنا بمطعم "المستشفى"، فإذا ببعض الممرضين والممرضات يقهقهون بصوتٍ مسموع، متجمعين حول طاولة الإفطار، وكأنَّ تلك الأرواح، وتلك الجروح لا تستحق أن نبقى دون إفطار تضامناً معها، إن لم يكن منبثقاً من الإحساس بالمسؤولية.
أخرجتُ آلة التصوير لآخذ صورة جماعية لأولئك الذين يفطرون على مأساة عائلات القتلى، ومعاناة الجرحى مع الصدمة النفسية والجسدية، لكنهم انتبهوا إليَّ قبل اشتعال الآلة، فأغلقتْ إحدى الممرضات باب المطعم. استفسرتُ عن هذه المهزلة/الإهانة، فأخبرونا أنَّ مهمة أولئك وساعات عملهم انتهتْ، وأنَّ ما يقومون به تطوُّعٌ منهم!! وهل تنتظر حالاتُ الطوارئِ التطوُّع؟ أينتظر الجرحى في دمائهم حتى تصل نوبة أحدهم؟
كانت حصيلةُ القتلى 14 ميتاً، 10 منهم ماتوا في عين المكان (لا تنسوْا أن سيارات الإسعاف لم تلتحق حتى مرت قرابة الساعة عن الحادث)، و ثلاثة ماتوا في "المستشفى"، وفتاة ماتت في طريقها إلى ورزازات. لماذا إذن تمَّ نقلها إلى ورزازات؟ ولماذا لم تُقدَّم لها العنايةُ اللازمةُ في تنغير؟ وأي إسعاف تلك التي نقلتها؟ وحسب علمي لا توجد سيارة إسعاف واحدة مجهزة في تنغير!!
أما الموتى، فقد تمَّ وضعهم على الأرض لافتقار "المستشفى" لثلاجات حفظ الموتى، وبشكل مهين لكرامتهم وعرضهم، ولم تتم تغطيةُ جثتهم إلا بعد شكاية واحتجاج بعض المواطنين الحاضرين في مركز "التكديس" .
في حين تمَّ نقل الجرحى إلى مراكز للاستشفاء (سيدي حساين بورزازات، ومولاي علي الشريف بالراشيدية) مما يطرح سؤال: لماذا لا يتوفر مركز العمالة الجديدة على مستشفى يستحق هذه التسمية؟ ألا تستحق تنغير مستشفى في مستوى حجمِها الاجتماعي والديموغرافي والاقتصادي؟
سيدتي، إليكِ هذه الشهادة التي شهد بها شاهد من أهل الصحةِ المريضةِ: "بعد الإسعافات الأولية التي تمت بمستشفى تنغير، تمَّ نقل 32 حالة؛ 18 منها إلى الراشيدية، و14 إلى مستشفى سيدي حساين بورزازات" (مندوب وزارة الصحة لإحدى الإذاعات الوطنية).
أيعقلُ أن يكون "المستشفى" المركزي لمدينة بحجم وسُمعةِ تنغير مجرد "مستوصف" لتقديم الإسعافات الأولية؟ اعذريني يا سيدتي الجميلة أن أقول لكِ: «استنهضي أبنائكِ الأحرار الذين حاربوا المستعمر الفرنسيَّ، وأذاقوه طعمَ الهزائمِ، ليذيقوا هؤلاء "اللامسؤولين" الذين لا يبالون إلا بملءِ جيوبهم المثقوبةِ أنواع الأرقِ بالخروج عليهم، والمطالبةِ بمحاسبتهم في كلِّ درهم كانوا مسؤولين عليه، وإلا سأنْكِرُ انتمائي لتنغير، ما دام العشرات يموتون سنوياً من فلذات أكبادنا، ومن أحبابنا بسبب نقلهم إلى مستشفيات الجيران، ونكتفي نحن بالبكاءِ، والتأسُّف في المقاهي!!»
وما أثار استغرابي أكثر، أن وزيرة الصحة الضاحكة لم تكلِّف نفسَها عناء السفر لمعاينةِ آثار الحادث، والوقوف عند حالة المصابين وتفقدها، وكأنَّ الأمر لا يعنيها. عجيبٌ أمرُ هؤلاء! ما عدتُ أفهمُ شيئاً. لعلها تنتظرُ اجتماع "النُّوَّامِ" -أقصد النوابَ المحترمين- والمستشارين في مجلسهم ليسألوها عن الواقعة، لتبدأ الوزيرة المدللةُ بالضحك من جديد على حالة المصابين والموتى كما ضحكتِ سابقاً من حالة المصابين بإقليم الراشيدية الذين عانوا من حشرات غريبة (الرابط ).
سيدتي، أستسمحك عذراً أن أختم جلستي معكِ بهذه الحكاية: «يُحكى أنَّ طبيباً كان اشتغل بمستشفى تنغير مُدَّةً من الزمن. وبعد سنوات من الراحةِ (لأنَّه لا عمل في هذا المستشفى سوى تقدير المرض، ووصف الدواء، والحالات الصعبة يُحرَّر لها الإذن بالنقل أو الانتقال إلى مستشفيات الجيران) انتقل الطبيبُ إلى إحدى مستشفيات الدار البيضاء. وذات يومٍ، عاين ذاك الطبيب حالة أحد البيضاويين، وكانت حالةً صعبة، فحرر تقريراً بضرورةِ نقله إلى مستشفى سيدي حساين بورزازات».
[1] لو لا احترامي لسائقها الذي يظهر في الصورة، لنشرنا الصورة هنا. لكن القصد نشر المعلومةِ وليس المساسُ بالأشخاص، وتحديد السيارة بعينها.
[2]. إنما سُمِّي المسؤول مسؤولاً لأنه يُسأَلُ.
hasmi
تنغير، يوم الثلاثاء 26 يوليوز 2011